فصل: تفسير الآية رقم (156):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (156):

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}
ونلحظ أن هذه الآية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربّه بعد قوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا}. ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى- عليه السلام-: {فاغفر لَنَا} أما الحسنة في قوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} فإنها تعود على طلب الرحمة: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة}.
هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الآخرة، والحسنة لها معنى (لغوي)، ومعنى (شرعي) أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الإِنسان يُسمى حسنة، ولكن الحسنة الشرعية هي ما حسنه الشرع، فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا، فالحسنة ليست ما يستحسنه الإِنسان؛ لأن الإِنسان قد يستحسن المعصية، وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج، أما الاستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج ب (افعل) و(لا تفعل).
والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من الله هي الحسنة الشرعية؛ لأن الإِنسان قد يستحسن شيئاً وهو غير شرعي لأنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه، ولا ينظر إلى آجلية النفع، ولا ينظر إلى كمية النافع. والنفع- كما نعلم- في الدنيا على قدر تصورك في النفع، أما النفع في الآخرة فلا يعلم قدره إلا علاّم الغيوب سبحانه إذن فقوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} يكون المراد بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملاً، وفي الآخرة جزاءً.
ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الأولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة اللغوية؛ فهو دعاء بالعافية والنعم الجلية الطيّبة؟، وكل خير الدنيا في ضوء منهج الله. والحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة...} [الأعراف: 32].
إذن فالحسنة الخالصة هي في يوم القيامة، ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا؛ فالجماد منتفع برحمة الله، والنبات برحمة الله، والحيوان منتفع برحمة الله، والكافر منتفع برحمة الله. كل ذلك في الدنيا، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء، لكن مسالة الآخرة كجزاء على الإِحسان فهو جزاء خاص بالمؤمنين.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ}.
و(هاد) أي رجع، و(هدنا إليك) أي رجعنا إليك، وهذا كلام موسى عن نفسه وعن أخيه، وعن القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا، وما دمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين. ويرد الحق سبحانه: {... قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وقوله الحق: {عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} أي لا يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب لأحد؛ فحين يذنب عبد ذنباً أنا أعذبه أو أغفر له؛ لذلك لا يقولن عبد لمذنب إن الله لابد أن يعذبه؛ لأنه سبحانه هو القائل: {عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ...} [الأعراف: 156].
وما المقصود بالرحمة هنا؟ أهي الرحمة في الدنيا أو الرحمة في الآخرة؟ إنها الرحمة في الدنيا التي تشمل الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، ولكنها خالصة في اليوم الآخر- كما قلنا- للمؤمنين.
وقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا} يدل على أن هذا سيكون في الآخرة. أي أن رحمة الله وسعت كل شيء في الدنيا ولكنها رحمة تنتهي بالنسبة للكافرين في إطار الدنيا، ولكن بالنسبة للمؤمنين فهي رحمة مستمرة قد كتبها الله أزلاً وتعطي للمؤمنين فضلاً ومنًّة وعطاء منه سبحانه {... فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وعندما سمع بعض اليهود ذلك قالوا: نحن متقون، فقيل لهم: في أي منهج أنتم متقون أفي منهج موسى؟ لو كنتم متقين في منهج موسى- كما تزعمون- لآمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن من تعاليم موسى أن تؤمنوا برسول الله محمد- عليه الصلاة والسلام- ولذلك جاء قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ...}.

.تفسير الآية رقم (157):

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
فهذه تسع صفات لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أن الله أوحى إليه كتابًا مختصاً به وهو القرآن، وأنه صاحب المعجزات، أنه بلّغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والأخلاق- وهو- عليه الصلاة والسلام- الأمي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم، فهو- عليه السلام- باقٍ على الحالة التي ولد عليها، وقد ذكره ربّه- جل وعلا- باسمه وصفاته ونعوته عند اليهود والنصارى في التوارة والإِنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها، كما وصفه ربه بأنه يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر السليمة؛ لأن في ذلك النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وأنه صلى الله عليه وسلم يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة، والخلقة السوية، ويحل لهم ما حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها الله عليهم جزاء طغيانهم وضلالهم، ويحرم عليهم كل ضار وخبيث: كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش، ويخفف عنهم ما شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى- عليه السلام- كقطع الأعضاء الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها، وكذلك يخفف الله ويحط عنهم المواثيق الشديدة التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم.
يقول- جل شأنه-: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 160-161].
وهكذا أعلم الله الرسل السابقين على سيدنا رسول الله أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن الأقوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صلى الله عليه وسلم، صحيح أن رسول الله لم يكن معاصراً لأحد من الرسل، ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في الكتب المنزلة عليهم، وكل رسول سبق سيدنا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، قد أمره الله أن يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمداً ويؤمنوا به ولا يتمسكوا بسلطة زمنية ويخافوا أن تنزع منهم. ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه معجزة وبينة فلابد أن يؤمنوا به. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين...} [آل عمران: 81].
إذن فقد صنع الله سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى لا يتعارض اتباع الأديان. ولا يفهم أصحاب دين موجود أن ديناً آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية؛ لأن رسالة الإِيمان موصولة وتحدث الأقضية للناس بامتداد الزمان. فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة تتساند فيها المواهب ولا تتعاند فيها الحركات.
وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال: {أَأَقْرَرْتُمْ} واستوحى منهم الكلام الذي يؤيد هذا المنهج. ولذلك لا يصح لتابع نبي أن يصادم رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للإِنسان الحياة وسلامتها وسعادتها.
ولم يكتف الحق بأن يجعل الإِيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه ونسلم مجرد خبر، بل وضع لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته، ووصفه لهم مشخصاً، وحين يصفه مشخصاً فهذا أوضح من الخبر عنه بكلام. ولذلك قال عبدالله بن سلام عندما سأله عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به منّي يا بني. قال: وَلِمَ؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبيّ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت، فقبّل عمر رأسه. ولذلك يقول الحق سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ}.
ولا شك أن الإِنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له سمات خاصة وهي التي تثبت شخصيته صلى الله عليه وسلم المادية، وليس الأمر في رحلة الإِسراء والمعراج مجرد كلام، بل إنه حينما سئل عن هذه الرحلة قال: (رأيت موسى وإذا رجل ضَرْبٌ، رَجَلٌ كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس- الحمَّام- وأنا أشبه ولد إبراهيم به).
وكذلك أعطى الله في التوراة والإِنجيل لا الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل أعطي تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم، فلا يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك، فبقول سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ}. ولكن فريقاً منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة الزمنية، لأنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود الأمم والشعوب. لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الأرض متعاونين لا متعاندين، ينصر بعضهم بعضاً. كما جاء في سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29].
لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله في التوراة والإِنجيل، لأن الدين الإسلامي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده؛ لذلك جاء بسيرة رسول الله وصفاته وصفات أتباعه في التوراة والإِنجيل، وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية التي انجرفت إلى مادية صرفة وتركت الروحانيات؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}.
حين أسرف اليهود في المادية أراد الله أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام.
ليحصل الاعتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط.
إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لأنه لا معاندات في الرسالات. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الموكب الرسالي، كان ولابد أن يصفه الله سبحانه وصفًّا ليس بالكلام، بل يصفه كصورة، بحيث إذا رأوه يعرفونه، ولذلك نجد سيدنا سلمان الفارسي حين رأى رسول الله في المدينة ورأى منه علامات كثيرة أحب أن يرى فيه علامة مادية، فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة.
ولكن هل نفع ذلك؟ نعم، فكثير من الناس آمن به. وقد أقام رسول الله مناظرة بينه وبين اليهود بواسطة عبدالله بن سلام، الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول الله: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أي رجل فيكم عبد الله بن سَلاَم؟) قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أفرأيتم إن أسلم عبدالله؟) قالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبدالله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه.
إذن فالأوصاف الكلامية والأوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى لا يقال: إن أديان السماء تتعاند، إنها كلها متكاتفة في أن تصل الأرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زماناً ومكاناً. وقديماً كان العالم معزولاً عن بعضه، وكل بيئة لها أجواؤها وداءاتها؛ فيأتي الرسول ليعالج في مكان خاص داءات خاصة، لكن الله جاء برسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توحدت هذه الداءات في الدنيا؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية، وجاء رسول الله مؤيداً بأوصافه ومؤيداًُ بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغلالهم، والإِصر هو الحِمْل الثقيل، والأغلال جمع غُلّ وهو الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة.
وقد ذكر الحق الأوصاف ومهَّد الأذهان إلى مجيء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم الأغلال بالنور الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسالة المحمدية هي الجامعة المانعة، ولذلك يقول الحق بعد ذلك: {قُلْ ياأيها الناس...}.

.تفسير الآية رقم (158):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}
هنا يأمر الحق رسوله بالآتي: {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} في رسالة تعم الزمان، وتعم المكان. وفي ذلك يقول رسول الله: (أعطيت خمساً لم يُعْطَهن أحد من الأنبياء قبلي.. نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة).
ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق؛ لذلك كان الحديث موجهاً إلى كافة الناس: {قُلْ ياأيها الناس}. وكل من يطلق عليهم ناس فالرسول مرسل إليهم: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي تجعل لله رسولاً يبلغ قومه وكافة الأقوام منهج الله في حركة حياتهم، فقال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
ومادام هو الذي يملك السموات والأرض، ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها، وفي السموات والأرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد. ولو أن السماء لواحد، والهواء لواحد، والأرض لواحد، وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا، وإله هناك وإله هنالك. وفي هذا يقول الحق: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ...} [المؤمنون: 91].
إذن فما دام الوجود كله من السموات والأرض وما سواهما لله، فهو الأوْلى أن يعبد، وأول قمة العبادة أن تشهد بأنه لا إله إلا الله، وحيثية ألوهيته الأولى أن له ملك السموات والأرض. وما دام إلهاً فلابد أن يطاع، ولا يطاع إلا بمنهج، ولا منهج إلا بافعل ولا تفعل. وأول المنهج القمة العقدية إنه هو التوحيد. وجعل الله للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. وهذا أمر لم يدعه أحد أبداً؛ لأن الله هو الذي له ملك السموات والأرض، ولأنه يحيي ويميت.
ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه: {أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ...} [البقرة: 258].
وحاول هذا الملك أن يدير حواراً سفسطائيًّا مضللا ليفحم ويسكت إبراهيم- عليه السلام- فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ...} [البقرة: 258].
وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه، وهو بذلك لا يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين. لكن هل الأمر بالقتل هو الموت؟. طبعا لا؛ لأن هناك فارقا بين الموت والقتل، فقد يقتل إنسان إنساناً آخر، لكنه لا يمكن أن يميته؛ لأن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو بقنبلة. ولا أحد قادر على أن يميت احداً إذا رغب في أن يميته، فالموت هو الحادث بدون سبب، لكن أن يقتل إنسان إنساناً آخر فهذا ممكن، ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...} [الأعراف: 158].
وانظروا إلى الدقة في الأداء؛ فما دام قد أمر الحق رسوله أن يقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وحيثية الإِيمان هي الإِقرار والاعتقاد بوحدانية الإِله الذي له ملك السموات والأرض، وهو لا إله إلا هو، وهو يحيي ويميت؛ لذلك يدعوهم إلى الإِيمان بالخالق الأعلى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}.
لم يقل محمدٌ وآمنوا بي؛ لأنها ليست مسألة ذاتية في شخصك ما يا محمد، إنما هو تكريم لرسالتك إلى الناس، فالإِِيمان لا بذاتك وشخصك، ولكن لأنك رسول الله، فجاء بالحيثية الأصلية {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}، والرسول قد يكون محمداً أو غير محمد.. وبعد ذلك قال في وصف النبي: {النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ}. والأمية- كما علمنا من قبل- شرف في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بكلمات الله، وهي إما بما بلغنا عنه من أسلوب القرآن، وإمّا بالذي قاله موسى لقومه: (وجعل كلامي في فيه).
ويقول فيه عيسى- الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه-، وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه، والقول الشامل في وصف كلمات محمد صلى الله عليه وسلم: ما بيّنه الحق في قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
أو أن الإِيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون الله مخلوق بكلمة منه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ولقائل أن يقول: كيف يخاطب الله شيئاً وهو لم يكن بعد؟ ونقول: إنه سبحانه قد علمه أزلاً، ووجوده ثابت وحاصل، ولكن الله يريد أن يبرز هذا الموجود للناس، فوجود أي شيء هو أزلي في علم الله، وكأنه يقول للشيء: اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطموراً في طيّ قدرتي.
وسواء أكانت الكلمة بخلق الأسباب، مثل خلث الشمس والقمر أم بخلق شيء بلا أسباب، كعيسى- عليه السلام- فأنه (كلمة منه) أي كلمة تخطت نطاق الأسباب؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من غير رجل. وفي هذا تخطٍ للأسباب، ولذلك قال الحق سبحانه: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ}. ونعلم أن كل شيء لا يكون إلا بكلمة منه سبحانه، ولكن بكلمة لها أسباب، أو بكلمة لا أسباب لها. والكلمات هي أيضاً الآيات التي فيها منهج الأحكام، ولذلك يأتي قوله الحق: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ويروي لنا الأثر أن سيدنا موسى عليه السلام قال لربه: (أني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد).
وقول موسى آمنوا بالكتاب الآخر، هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط...} [البقرة: 136].
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. و(لعل) رجاء وطلب. ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين: إما طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه، وهو لون من التمني مثل قول من قال: ليت الشباب يعود يوماً، إنه يعلم أن الشباب لا يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب. أو كقول إنسان: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح، وهذا طلب لمحال، إلا أنه يريد أن يشعرك بأن هذا أمر يحبه، إمَّا طلب ممكن التحقيق. وهو ما يسمى بالرجاء. وله مراحل: فأنت حين ترجو لإِنسان كذا، تقول: لعل فلاناً يعطيك كذا، والإِدخال في باب الرجاء أن تقول: لعلي أعطيك؛ لأن الرجاء منك أنت، وأنت الذي تقوله، ومع ذلك قد لا تستطيع تحقيقه، والأقوى أن تقول: لعل الله يعطيك. أما الله يعطيك. ولكنها من كلامك أنت فقد يستجيب الله لك وقد لا يستجيب، أما إذا قال الله: لعلكم، فهذا أرجي الرجاءات، ولابد أن يتحقق.
وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى، يتكلم عنهم بعرض قصصهم، وفضائحهم للعهد بعد نعم الله الواسعة الكثيرة عليهم، وأوضح لنا: إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاماً؛ لأن الحكم لو كان عاماً، لما وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد. ولذلك قلنا قديماً إن هناك ما يسمى (صيانة الاحتمال). ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول الله مثل مخريق الذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (مخريق خير يهود). وعبدالله بن سلام إن بعض اليهود كانوا مشغولين بقضية الإِيمان، ولذلك لا تأخذ المسألة كحكم عام؛ لأن من قوم موسى من يصفهم الحق بالقول الكريم: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ...}.